_ الفصل الرابع عشر _
_ الســم الحلــو ! _
تائهة هي ، حائرة ، غارقة بين مخطوطات الحق وشعور بالذنب ، متحيرة بين الحب والكره ، مشاعرها متلخبطة لا تستطيع ان تفهمها ، كيف لها ان تحب قاتل ، تحب من تكرهه بشدة ، كيف لها ان تكرهه احدا وتحبه من الاساس ، تمنحه كل مرة كأس السم الحلو بيدها ببسمة شر ، ثم تختفي داخل الغرفة تبكي بحزن ، ضميرها يأنبها ، عقلها يحفزها ، لا تعلم حقا من هي !
اهي تلك الفتاة البريئة الطيبة ، ام تلك الشريرة التي تغيرت بعد موت اخيها !
ويحها لما هي الوحيدة التي تحب من قتل اخاها ويده ملوثة بدماء الاخر
عندما يصل تفكيرها لتلك العبارة ، تنسي جميع مشاعر الحب ، وتفكر بالانتقام ، عندما تتذكر انه قاتل الاخ الحنون الذي كانت تعتبره عالمها ، ضميرها يندفن حيا ، قلبها المحب لا تصغي إليه
فقط تسير كالمغيبة خلف عقلها…
فاتت عشرة ايام ، تزوجا منذ عشرة ايام ، ايام مرت كالحلم عليه ، جميلة بكل ما فيها الا كوابيسه التي مازال يعانيها وتلك الاعراض الغريبة التي بات يشعر بها مؤخرا ، لحظات يشعر بانه يريد الحك بجسده كله ، جسده تصيبه رعشة وبرودة ، صداع مزمن يكاد يفتك برأسه ، اشياء لا تذهب الا عندما يتناول قهوتها تلك التي باتت ادمانا له
يظن انها دواءه وهي بالاصل دائه..!!
دخل لـ المنزل فوجدها تجلس بغرفة المعيشة علي احدي الارائك تشاهد التلفاز تقدم منها ، كعادته قبلها علي وجنتيها الاثنتين ، قالت ببسمة وهي تنهض:-
_اجهز الغدا !
اؤما بنعم وهو يجلس علي الاريكة التي كانت تجلس عليها بتعب ، ثم ردد:-
_وبعد الغدا عايز فنجان قهوة لو سمحتي
اؤمات بحسنا وهي تراقب حالته بصمت ، لن تصمت ولن تتحدث ، ستنفذ انتقامها مهما كلفها هذا من ذنوب وخطايا ، من تعب وجهد ، من تأنيب وحزن ، ووجع..!!
****
كان نور الدين جالسا علي مقعد مكتبه بشركته ، مغمضا عينيه بارهاق ، كان مستيقظا لكنه مغلقها فقط من التعب ، لكن .. دون ارادة منه غرقت عيونه بالنوم
مرت دقائق عديدة حتي وجد ظـلا يظهر له بوسط سواد عميق ، اقترب نحوه بفضول فظهر من السواد ضوء خافت ارتكز علي الظل ، عاد لـ الخلف بفجع
بينما خرج صوت من الظل:-
_الحقيقة هتبان يانور الدين ، هتبان وهتنهي علي اللي حافظت عليه طول عمرك ، عملت المستحيل علشان تخفي الحقيقة بس مسيرها يوم تظهر ، اخوك هيتعاقب يانور .. اخوك هيتعاقب يانور .. اخوك…..
استيقظ فجاة وانتفض عن مكانه بفزع ، كان جسده يتصبب عرقا ، ويرتعش بقوة ، راح صوت نفسه يخرج كذلك بصوت مرتفع كأنه خرج توا من سباق ركض
مسح حبات الماء عن جبهته بـ قماشة ورقية وهو يردد:-
_اعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم
حاول كذلك ان يهدي من نفسه لكنه لم يستطيع ، هو خائف علي اخيه بشدة ، شعر بالقلق نحوه ، لذلك انتفض عن مكتبه ، لملم اشياءه سريعا ثم توجه بخطواته نحو الخارج…
كانت حالة سراج افضل بعدما تناول قهوته ، جلس معها امام التلفاز يشاهدون معا برنامج كوميدي ، راحت تتعالي ضحكاتهم ، وقد سكنت هي بين احضانه الضامة لها بقوة ، قطع لحظاتهم تلك صوت جرس الباب الذي عَلي ، توجه لـ الباب وفتحه وجد نور الدين امامه
فتح الباب سامحا له بالدخول وهو يقول بسعادة:-
_نـور الـديـن !
دخل الاخر ، وجذبه لاحضانه بقوة ، ظل محتضنا اياه فترة كبيرة تعدت الدقيقة والنصف وسط تعجب سـراج البين ، ابتعد عنه اخيرا ، لاحظ التعجب علي ملامح سراج فقال بحرج:-
_كنت واحشني اوي
ابتسم متفهما وهو يقول ممازحا:-
_واحشك اية يابني ! دا انا حتي روحت اسبوع عسل مش شهر زي الناس ورجعت .. يعني مغيبتش اوي ، وكنت معاك امبارح !
نور الدين:-
_وحشتني من امبارح لـ النهاردة ، وبطل لماضة بقي
تقبل سراج الامر بدون تعقيد ، وادخله لغرفة الصالون وهو يرحب به بقوة
فـ نور الدين بالنسبة له ليس اخ وفقط
بل ابا و اخا ، كذلك صديق عزيز عليه جدا…
****
كانت هانيا تركض وبجوارها ملك ، كانت خطوات تميل لـ السير اكثر من الركض ، حيث ما كان يعطلهم الحديث الدائر بينهم ، ملامح ملك كانت متضايقة ، قالت بنبرة منفعلة:-
_مش كفاية كدا ! هو حاليا بقي مدمن خلاص ، يعني مهمتك خلصت ياهانيا ، اخلقي اي سبب واتطلقي منه وسيبيه في حاله بقي ، بلاش تأذيه وتأذي نفسك اكتر من كدا
هانيا بأصرار:-
_لا مش هبعد ، انا قولت من البداية ياملك انا عايزه ادمره وانهيه خالص
ملك بضيق ممزوج بعصبية:-
_هتدمريه بأية اكتر من كدا ؟ مش كفاية هتظهريه قدام نفسه غبي ، واحدة مفكرها ملاك برئ بعدته عن كل سئ علشان ترميه في النار بنفسها ، صدمته لما يعرف بأدمانه ، صدمته لما يلاقيكي اختفيتي من حياته ، وصدمته فيكي اصلا دا كله مش هيشفي غليلك !
اؤمات بالنفي وهي تردد بصوت قاسي:-
_كل دا مش هيريحني ، طول ما هو عايش وبيتنفس اخويا مش هيكون مرتاح في قبره
صمتت وعادت تقول بحدة:-
_هو لازم يموت ، لازم يختفي من حياتي بعد ما اصدمه فيا واوجعه ، لازم يموت علشان نور الدين اخوه يتكسر ، معني موت سراج .. كسر وقهر نور الدين ، انا هبقي مبسوطة لما ابقي شايفة وجع نور علي اخوه ، وبرضوا هتبسط لما يموت سراج
هل حقا ستفرح بموته ؟!
هي تقول تلك الكلمات بأندفاع الان
لكن .. هل حقا ستفعل وستفرح ؟!
ملك بقلة حيلة ، كلمات تنطقها دوما بعدما تفقد الامر في اقناعها بـ التوقف عن افعالها:-
_هو مكنش في وعيه ياهانيا
هانيا بصياح عالي:-
_مش معني انه مكنش في وعيه انه مذنبش قولتلك ، وانه كدا مش غلطان ، هو مذنب لانه بسبب دلعه وحياته اللي كلها غلط ضاعت روح ، بسبب سكره راح اخويا ياملك ، مستحيل اسامحه ابدا ، انه مش في وعيه دا بالنسبالي مش مبرر لـ المسامحة ، لا…
صمتت وعادت تكمل بقسوة:-
_دا مبرر لـ كرهي ليه ، مبرر لضميري علشان يسكت
****
_لسة مفكرتيش يانيرمين !
رسالة بعثها محمود لـ نيرمين ، قرأتها هي وتنهدت ، ظلت لـ لحظات تحاول ان تكتب له رسالة لكنها تكتبها ثم تحذفها ، عادت الكرة عدة مرات لكن ايضا كانت تحذفها
زفرت بضيق وهي تري توترها ذلك ، جمعت اعصابها وكتبت اخيرا له:-
_بفكر يامحمود ، بس صدقني التفكير صعب ، الكلام فتح معايا ذكريات كتير وحشة وحلوة ، لسة هشوف انهي كفة هتميل ، انهي ذكريات اكتر .. الوحشة ولا الحلوة
ومنها هقرر
بعثتها له ثم اغلقت الهاتف .. نظرت لـ الباب الذي انفتح ودخلت منه نجوان ذات الملامح الباهتة ، تقدمت منها وارتمت بأحضانها وهي تقول بأنهيار:-
_ماما انا عايزة انام في حضنك انهاردة
راحت تمسد علي خصلات شعرها بحنان وهي تقرا عليها بعض الادعية والقران الكريم ، لم تتحدث معها بشئ فهي قد لاحظت تعب ابنتها وارهاقها منذ فترة ، فلم تريد ان تزيد من اوجاعها بحديثها
الاخري .. عندما ضاق بها الامر اسرعت لحضن والدتها
رغم علمها جيدا بأن والدتها مذنية وانها احدي اسباب ارهاقها وتعبها لكنها بالفعل لم تجد حضنا تختفي فيه وتشكو فيه تعبها بصمت الا هو ذلك الحضن الدافي
****
كانت تراقبه وهو نائم بملامح باردة لاحظت ارتعاشه ، وبداية ظهور نوبة من الهيسترية عليه ، بدأ يصرخ كذلك بكتوم وهو يصارع في احلامه ، كانت ملامحه توجع قلب اي احد كان سيراه بتلك الحالة
لكنها لم تتأثر ، كـ لوح ثلج هي الان ، قلبها لم يحن له
عند صوت الاصطدام الدائم بالحلم فتح عيونه هو بفزع ، انتفضت هي ايضا تصطنع انها استيقظت توا وهي تقول بخوف مصطنع عليه:-
_مالك ياسراج .. فيه اية ياحبيبي !
حرك يده علي وجهه عدة مرات وهو يقول بتعب:-
_كابوس ياهانيا
ربتت علي كتفه وهي تقول:-
_اشرب مية طيب واهدأ كدا
مدت يدها تأتي له بالماء من الطاولة التي تجاورها ، امسكتها وقدمتها له ، رشف منها رشفتين صغيرتين ثم اعطاها الكوب ، كان مازال يرتعش ، راحت تربت علي كتفه وظهره بحنان ، وهي تقول له كلمات مطمئنة تحاول بها ان تهديه ، باصطناع كانت تفعل هذا ام بقلق حقيقي !
لا تدري ، حقا لا تدري
لكنها وجدت نفسها تفعل ذلك دون ارادة منها
عاد برأسه علي الفراش حاول ان يعود لـ النوم ، كذلك هي اغلقت الاضواء
لكن النوم جفاه ، ظل فاتحا عينيه ساعتين اخرتين تقريبا من الليل
لكن بعد ذلك .. من الارهاق ، سقط سهوا في النوم العميق ..
باحدي الايام دخل لـ المنزل وجدها تجلس كعادتها علي اريكتها التي باتت تفضلها ، لكنها اليوم لا تقرا كتابا او تشاهد برنامج ، بل كانت تمسك مغلفا خاص بالصور ، تقلبه والحزن مرتسم علي ملامحها جيدا ، اقترب منها وهو يقول بتسال:-
_بتعملي اية ياهانيا ؟!
خرج صوتها مرتعشا تظهر فيه بحة البكاء:-
_بتفرج علي صور ماما وبابا واخويا
ترك حقيبته بجوار اريكتها ثم جلس جوارها ، اسكن جسدها بين احضانه و:-
_فرجيني كدا علي الصور معاكي
ابتسمت بمكر ابتسامة لم يلاحظها وهي تقدم الملغف له ، قالت وهي تشير لـ احدي الصور:-
_دا بابا وماما ، ودي صورتي انا وهاني اخويا واحنا صغيرين
قال بتعجب:-
_اخوكي اسمه هاني
ردت بـ مرارة واضحة:-
_اها .. هاني عدنان ، بابا سماه هاني وبعدين جيت انا ، حب تكون اسمائنا متشابهة فسماني هانيا
قال باعجاب وهو يميل برأسه نحوها ليقبل جبينها:-
_والدك يستاهل مني الف شكر علي اختياره لـ اسم حبيبتي الحلو دا
ابتسمت ولم ترد ، قلبت الصفحة واتت بالصفحة المنشودة ، قالت بتمهل وهي تعطيه المغلف وتستعد لتغادر:-
_دا هاني اخويا بعد ما كبر ، خد اتفرج عليه وعلي صوري عقبال ما اسخن الاكل
نظر لـ الصورة نظرة سطحية ، كاد يقلب المغلف لولا ان ثبت نظراته علي الصورة جيدا ، جحظت عيونه واتسعت اتساعا كبيرا ، وهو يدقق بملامحه
راح عقله يتذكر ” سهر ، خمر ، رقص ، سيارة تُقاد بسرعة عالية ، صعوبة التحكم بالسيارة ، ظهور احدهم فجأة امامهم ، اصطدام ، صراخ ، بكاء ، ادم “
اخيرا احدهم يهمس قائلا ” متموتش ، متموتش “
ولم يكن هذا سوي هو ، هو الذي كان يطلب منه الا يموت ، الا يغلق عينيه
انتفض بفزع من مكانه ، سقط المغلف ارضا ، لم يهتم له ، اتجه نحو الباب ، فتحه ثم اغلقه بقوة خلفه
ظهرت هي من خلف الحائط وهي تبتسم بمكر
نهايته اقتربت لـ الغاية ، العد التنازلي اوشك علي الانتهاء
ثلاثة .. اثنين .. واحد ..
قريبا ستعد تلك الارقام وبعدها سيتوقف هو عن التنفس ، كما توقف اخيها عن التنفس بـ يوما ما ، بسببه هو ..
****
الصدمة هي الطريق الوحيد الذي يجب ان يُسلك لمعرفة الحقيقة وها هو سراج قد سلكه ..
. . .
اتخيل انك بقيت قاتل في لحظة .. رد فعلك هيكون اية ؟
اترك رد